fbpx

غريزة الأمومة | بين الحقيقة الفطرية والأكذوبة المجتمعية

كتبت: مها طــه 

كم مرة تصادف أن رأيتِ طفلة تحمل دميتها وتدللها وكأنها أم على صغرها؟ أعتقد أننا جميعًا رأينا هذا المشهد مراتٍ عدة، إن لم نكن نحن بطلاته. غالبًا ما يأتي التفسير على لسان الأمهات والجدات، بأن ما يدفعنا لذلك هو غريزة الأمومة التي فطرنا عليها منذ قديم الأزل. 

هل حقًا ما يدفعنا نحو تدليل الدمى في الصغر، ثم مداعبة الصغار والرغبة المحمومة في الإنجاب عند اكتمال أنوثتنا هو هذه الفطرة التي خلقنا عليها؟ أم أن رغباتنا تتشكل بفعل المجتمع وما زرعه فينا من أفكار ومعتقدات؟ 

في هذا المقال، نحاول البحث سويًا في مفاهيم الفطرة وغريزة الأمومة. نحاول معرفة الدوافع بل ونفي التهم عمن خالفن هذه الفطرة إن كانت حقًا هي الفطرة. 

غريزة الأمومة

البحث عن غريزة الأمومة

عند البحث عن المقصود بالغريزة، نجد أنها تعبر عن ميل طبيعي ووراثي غير قابل للتغيير. أو سلوك يقوم به الكائن الحي كاستجابة معقدة ومحددة في آن معًا، لمجموعة من المؤثرات البيئية وبشكلٍ لا واعي. 

على سبيل المثال، فإن الحرباء تغير لون جلدها لتحاكي لون المكان المختبئة به، حتى تحافظ على حياتها في مواجهة أعدائها. وغيرها العديد من الأمثلة الأخرى لحيوانات تمارس سلوكيات محددة دون إرادة أو ترتيب مسبق. لكن هل ينطبق الأمر نفسه على الأمومة؟ 

بالطبع لا، فالأمومة تأتي وفقًا لرغبة محددة،قد نتصور أحيانًا أننا نندفع إليها رغمًا عن إرادتنا. ولكن من منا لم تفكر وتخطط للأمومة سواءًا قبل اتخاذ قرار الحمل أو عند حدوثه دون تخطيط مسبق؟ 

استنادًا لتعريف الغريزة فمن المفترض أننا -كإناث- وبمجرد حدوث الحمل نعرف فطريًا ما يجب أن نفعله لنرعى هذا الصغير القادم، بل ونقوم بذلك تلقائيًا دون أدنى معرفة أو حاجة للتعلم، وهو ما لا يمكن أن يكون صحيحًا. 

هل غريزة الأمومة وهم؟

دعونا نتفق في البداية أن مصطلح غريزة الأمومة مختلف عليه. فالبعض يختصرها في الرغبة في الإنجاب، والبعض الآخر يشير إليها كبوصلة أخلاقية وعاطفية تحرك الأمهات داخليًا؛ ليعرفن الفرق بين الصواب والخطأ في تربية أطفالهن. 

كما يصفها البعض بأنها الدافع وراء سعي الأمهات لحماية أطفالهن من الأذى. وعلى اختلاف تلك التعريفات لم يتمكن العلم من تحديد مصطلح شامل يصف الأمومة أو يؤكد أنها غريزة.

غريزة الأمومة

غريزة الأمومة وعلاقتها بالهرمونات

نعلم جميعًا أن جسم المرأة يمر بعدد كبير من التغيرات الجسدية خلال الحمل، وخاصةً على مستوى الهرمونات. وتستمر هذه التغييرات لما بعد الولادة.

بعد الولادة مباشرةً، يرتفع مستوى هرمون الأوكسيتوسين (هرمون السعادة) في الدم، وعليه تنشأ الرابطة بين الأم وطفلها. كما تعزز الرضاعة الطبيعية من إفراز هذا الهرمون، ما يؤدي للمزيد من الترابط والتعلق بالطفل. 

بالرغم من تلك التغييرات التي تمر بها الأم، إلا أنها لا يمكن أن توصف بالغريزة، فالجسم يهيئ نفسه فقط لما هو مقبل عليه، فيساهم المخ في إعداد الجسم لرعاية هذا الصغير القادم. 

على عكس الشائع، فإن أغلب الأمهات يعانين بعد ولادة الطفل الأول من مشكلات في ممارسة الرضاعة الطبيعية أو يواجهن صعوبات حتى في أبسط الأفعال، مثل الاهتمام وحدهن بالصغير أو تغيير حفاضاته والتواصل معه. فإن كانت تلك هي الفطرة فلماذا نحتاج للمساعدة؟

أقرأي أيضًا: الشعور بالذنب تجاه طفلي | هل أستحق لقب أم!

كيف تشعر الأم بصغيرها وتلبي احتياجاته؟

بعد مدة قصيرة من الولادة تبدأ الأم في التعرف إلى احتياجات طفلها، بل وتفهم معنى بكاءه، بل ويمتد الأمر لملاحظة أبسط التغييرات التي تطرأ على سلوكيات طفلها الصغير. ومع تقدم الزمن قد تشعر الأم بما يعانيها ابنها المراهق حتى دون أن يتكلم، فكيف لا نصف هذا الشعور بالفطرة؟ 

تقول د. “كاثرين مونك” أستاذ علم النفس الطبي بقسم أمراض النساء والتوليد بجامعة كولومبيا، أن هذه المشاعر تأتي كنتيجة للتقارب والحب العميق بين الأم والطفل. بالإضافة لقضاء ساعات طويلة معه -بمفردها في الأغلب- ما يجعلها تفهم احتياجات الطفل وتستجب لها. 

ينشأ هذا الشعور تلقائيًا عند الأمهات، ولكنه شعور إنساني طبيعي ولا يقتصر عليهن فقط. حيث يمكن أن يتطور هذا الشعور بين أي شخصين بعد مدة من التقارب، بل وقد ينشأ بين إنسان وحيوانه الأليف. 

أما عن سلوكيات الأم في رعاية طفلها، فغالبًا ما تنشأ هذه السلوكيات بالتعلم واكتساب الخبرة. فتسعى الأم الجديدة للتواصل وطلب الدعم من والدتها أو صديقاتها اللاتي سبق لهن التجربة. أو حتى بأخذ مشورة المختصين أو القراءة والمعرفة من مصادر موثوقة. 

غريزة الأمومة

الأمومة في مواجهة المجتمع

بعد الاستناد لهذه التفسيرات، يمكن أن نرى بوضوح أثر ترديد مصطلح غريزة الأمومة على الأمهات الجدد، فالعديد منهن يواجهن صعوبات في البداية. بل وقد لا يشعرن أصلًا بأي عاطفة نحو طفلهن حديث الولادة، فيبدأ الوصم المجتمعي بالجحود وانعدام الأمومة وقسوة القلب. 

يخلف هذا الوصم الكثير من المشاعر السلبية التي تحيط بالأم في بداية رحلتها. ونظرًا لما تمر به من تغييرات على المستويين الجسدي والنفسي، فإن الأم تشعر حقًا وكأنها مقصرة، بل وكأنها الوحيدة التي لم تجرب غريزة الأمومة، وكأنها ولدت بفطرة منقوصة. 

أحيانًا تتطور هذه المشاعر أكثر فأكثر، وينتج عنها الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، فضلًا عن الشعور باضطراب القلق وجلد الذات باستمرار. وأحيانًا قد يتطور الأمر لشعور الأم بالسخط على الطفل، بل ومحاولة التخلص منه، ظنًا منها أنها بذلك تنهي مأساتها مع الأمومة. 

والآن، ماذا عن الأبوة؟ 

عند الحديث عن التقارب بين الأم وطفلها قد تغفل أحيانًا دور الأب. ولذلك ووفقًا لدراساتٍ عدة، فإن الآباء أيضًا يمكن أن تتطور علاقتهم بأطفالهم بحيث يفهمون بكاء الرضع منهم ويشعرون بالتغييرات التي تطرأ على الأكبر سنًا. ولكن هذا يحدث فقط في حالة التقارب بين الأب وطفله. 

وحيث أننا من المجتمعات التي تلقي بأعباء الرعاية كاملة على عاتق الأمهات، نجد أن بعض الآباء يدافعون عن وصف الأمومة بالغريزة خوفًا من الاعتراف بأنهم مقصرون في أداء واجباتهم نحو الزوجة والأطفال. 

وهنا يأتي دور العلم، لتؤكد دراسة هامة على أن الرجال والنساء يتمتعون بنفس القدرة على تحديد سبب بكاء صغيرهم. وأن تحديد سبب البكاء يرجع فقط إلى مقدار الوقت الذي يقضيه الوالد (أمًا كانت أو أب) في رعاية الطفل. 

غريزة الأمومة

بل وتظهر بعض البحوث أن الآباء والأمهات المحتضنون يختبرون أيضًا ارتفاع في مستوى هرمونات الحب والسعادة عند قدوم الطفل المحتضن.

يأتي ذلك كنتيجة للتقارب والترابط بين الأبوين وطفلهم المحتضن، وهو ما يثبت أن الأمومة والأبوة ما هي إلا خصائص نكتسبها ونتعلمها بمرور الوقت، فقط إن أردنا ذلك.

أخيرًا، قد نستدل مما سبق إلى أن غريزة الأمومة لا تعد كونها مصطلح مجتمعي، فرضته بعض التصورات الخاطئة، ودعمته بعض الآراء المغلوطة، عن الأم المضحية التي يجب أن تمنحها الأمومة شعورًا دائمًا بالسعادة والغبطة، متناسين تمامًا ما تعانيه الأم في رحلتها. 

فمن الحمل إلى الولادة والرضاعة والتربية، تقف الأم في مرمى السهام. فلا تتحمل الآلام الجسدية والنفسية فقط، بل وينزع عنها الحق في الشكوى. كفى بالأمهات ما يعانينه، فلنتركهن لأداء واجبهن العظيم دون تقليل منهن أو إلقاء للوم عليهن. 

المصادر:

1- fatherly

2- womensrepublic

3- nature

4- pubmed

5- verywellfamily

اترك رد